رغم الاشتباكات المتقطعة واختطاف السلطة والممارسات القمعية تجاه حرية التعبير التي تشهدها مصر حالياً، فإن مجال الثقافة والفن في مصر ما فتئ يزدهر منذ يناير ٢٠١١ وحتى اللحظة. وفي الوقت الذي يشعر فيه الكثير من الفنانين أنهم غير قادرين كأفراد على الرّد بنجاعة على الأحداث السياسية عبر أعمالهم الفنية، خصوصاً وأن المؤسسات التقليدية تواجه العديد من التحديات؛ فقد ظهر خلال العامين الماضيين العديد من المساحات والمبادرات المفعمة بالنشاط. وبذلك يصبح تنظيم الفنانين لأنفسهم -وليس فقط العمل الفني ذاته- تعبيراً عن نوع جديد من التأثير المتبادل بين المجال الفني والسياسة بنقاشاتها الثورية.
وقت الفن؟
"عندما يقع حدث ضخم وعلى نحو هائل، لا بد وأن نعطيه مساحة من حياتنا وأفكارنا. وجود الفن الرجعي في التاريخ مضمون بحركة التاريخ نفسه" كتبت دعاء علي في يونيو ٢٠١١ في مقالتها المؤثرة "لا وقت للفن"، التي تستمد اسمها من سلسلة ما تزال مستمرة حتى الآن من عروض المسرح الوثائقي عن انتهاكات الشرطة والجيش حالياً في مصر للمخرجة ليلى سليمان. حيث تقول دعاء: "بعد تفجير مدمر أو نصر سياسي، ليس هناك وقت للفن... لقد حان الوقت للعمل والتضامن والاحتفال، وأي شيء عدا ذلك يبدو غير لائق. وهذا ما يفسر الحالة النفسية الصعبة لبعض الفنانين، وعدم قدرتهم على الإنتاج ومواصلة ما بدأوه". وتعكس مقالة دعاء علي صوت ومشاعر العديد من الفنانين الذين كافحوا للتعامل مع الثورة في أعمالهم الفنية، والذين يشعرون أنهم غير قادرين على الاستجابة بنجاعة من خلال أعمالهم نظراً لسرعة الأحداث السياسية ووتيرة تلاحقها.
أما في الوقت الحالي، وبعد مضيّ أكثر من عامين على بداية الثورة المصرية، فإن الكثيرين يتعاطفون مع هذه الأحاسيس. حيث يقول الفنان والمصمم والمنظم لـ"DI-EGY" هيثم نوار: "دلوقتي أنا مِتورط جداً في الأحداث كمواطن مصري. ويمكن دا يكون بيأثر بشكل سلبي على ممارستي، عشان ماباتصرفش كفنان. ومن الناحية الفنية، مش عارف أشتغل في وسط الحركة، أنا لازم أبعد نفسي عن اللي بيحصل عشان أنتج فن بيناقش مواضيع فنية. اللي حصل غيّر المجال السياسي، وغيّرني أنا ورؤيتي وعملي".
[الجريدة الحية]
في الوقت الذي يقسم فيه بعض الفنانين نشاطهم عمداً بين المشاريع السياسية والمشاريع غير السياسية، نظّم آخرون مشاريعهم الحالية بحيث تتماشى مع الوتيرة المتسارعة للتطور السياسي، ويشكّل العمل الفني "الجريدة الحيّة" المعروض في "آرت اللوا" مثالاً لهذه المشاريع. "الجريدة الحيّة" هي سلسلة من العروض المسرحية التي يتم دمج الجمهور في تأديتها، وهي تعرض وسط أرض اللواء (منطقة عشوائية في الجيزة) وتهدف معظم أنشطتها إلى "الربط بين أهالي أرض اللواء وبين المشهد الثقافي للمدينة والعالم عبر الفن". "الجريدة الحيّة" هي سلسلة العروض المسرحية التي ستوفر مساحة لمعالجة المحتوى الإعلامي المتلاحق وبعض القضايا الاجتماعية بطريقة إبداعية وذات معنى. وقالت مخرجة "الجريدة الحيّة" نيني عياش للموقع الإخباري "الأهرام أونلاين": "حسيت في الخريف اللي فات إن حاجات سياسية كتير بتحصل، وماكنش عندي وقت أتابعها كلها، مابلحقش يبقى عندي رد فعل فني. احنا ما بنلحقش نخرج من حدث قبل ما ندخل في اللي بعده. وهنا كان لازم نخلق المشروع دا بأسرع ما يمكن، عشان نتكلم في إللي حصل الاسبوعين اللي فاتوا، والقضايا إللي إحنا مهتمين بيها دلوقتي. الفكرة هي إننا نعمل حاجة لدلوقتي، مش تحفة أو حاجة أبدية".
تغييرات في الخريطة المؤسساتية
مثلما يشكّل الوضع السياسي المصري المتغير تحدياً للفنانين كأفراد، فإنه يمثل أيضاَ تحدياً لبعض مؤسسات مصر. ففي نهاية شهر ديسمبر ٢٠١٢، أغلق "منتدى الإسكندرية للفنون المعاصرة" أبوابه نهائياً على ضوء الظروف الاجتماعية والسياسية الحالية. فبعد ٧ سنوات اعتبر خلالها حجر الزاوية للمجال الفني في الإسكندرية، قرر أعضاء المنتدى أن أنشطتهم التعليمية والفنية و"تفعيل بيئة مناسبة للتفكير النقدي المرتبط بالسياق المحلي لم يعد ملائماً في مصر والإسكندرية حيث التحولات والتقلبات الإيجابية والسلبية في تلك الفترة الانتقالية على الصعيد السياسي والاجتماعي".
خلافاً لمنتدى الاسكندرية للفنون المعاصرة، نشأت في ظل هذا التقلب السياسي العديد من المؤسسات المثيرة للاهتمام، مثل المساحة الفنية "بيروت" التي تأسست لتحقيق هدف محدد هو توفير "منصة" (نطاق تفاعل وتجريب وحوار) للتفاوض مع التغييرات السياسية والاجتماعية من وجهة نظر فنية وإبداعية. فـ"بيروت" هي مبادرة فنية جديدة فتحت أبوابها في منطقة العجوزة بالجيزة في خريف سنة ٢٠١٢، وتصف نفسها "كمكان جديد للتفكير" وأنها "تنوي أن تضع في اعتبارها التغيرات السريعة التي نشهدها في مصر والشرق الأوسط". كما يضيف مؤسسوها: "في هذا الوقت الحاسم من المرحلة الانتقالية، ننوي إفساح المجال للتفكير في الحياة المعاصرة من موقع الفن، وتوفير مساحة للرد". وبإمكاننا القول إن المعارض الفنية الأخيرة مثل "سحر الدولة" وبرامج الأفلام والحلقات النقاشية مثل "ثقافات المقاومة" قد نجحت في تحقيق هذه الأهداف. هذا البرنامج الواسع وعميق التفكير ومتعدد التخصصات، جعل "بيروت" صاحبة حضور قوي في المجال الفني في غضون أشهر قليلة فقط من الافتتاح.
["سحر الدولة" في "بيروت"]
وليست "بيروت" سوى واحدة من بين العديد من المساحات الفنية المستقلة التي نشأت خلال السنة الماضية. فقد تأسست "سيماتك" في العام ٢٠١٢، في شقة مرممة في وسط البلد، لدعم السينمائيين المستقلين ولخلق جمهور للفيلم المستقل في مصر. بدأت عروض الأفلام في الصيف الماضي، وسيتم الافتتاح الرسمي في وقت لاحق من العام الجاري. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم العام الماضي نقل كل من جماعة الفنانين "مدرار للفن المعاصر" وشركة التسجيلات "١٠٠ نسخة" إلى أماكن جديدة. و"مدرار" هي منصة للفنانين الشباب الناشئة في مصر وتركز على الفنون الرقمية، وتم تأسيسها في عام ٢٠٠٥ كبديل للدوائر الفنية والمؤسساتية القائمة. انتقلت "مدرار" في أوائل سنة ٢٠١٢ إلى مقر جديد في جاردن سيتي، وهي شقة كبيرة بما يكفي للمعارض الفنية المستضافة حيث ينوون استضافة برامج مبتكرة للإقامة والرعاية curatorial الفنية. أما شركة التسجيلات "١٠٠ نسخة" فقد تم تأسيسها سنة ٢٠٠٦، وقد شغلت مكاناً خاصاً بها في صيف عام ٢٠١٢. وقد استضافوا سلسلة من المحاضرات والحفلات الموسيقية والعروض وورشات العمل في موقعهم الجديد القائم في وسط البلد، والذي يشكّل أيضاً أستوديو للتسجيل الموسيقي.
[مدرار للفن المعاصر]
بالإضافة إلى التغييرات المؤسساتية في خريطة الفن والثقافة للقاهرة، ظهرت خلال العامين الماضيين طرق جديدة للتفاعل مع الحيز العام والجماهير. يهدف العدد المتزايد من المهرجانات الفنية إلى نقل الفن والأداء إلى الشارع والانفتاح على طيف أوسع من الجماهير في أنشطتها الثقافية، بينما نقلت مبادرات تشبه "الصالون"، الأنشطة الثقافية إلى داخل البيئات المنزلية في جميع أنحاء المدينة حيث ينظمها أفراد يستفيدون من شبكاتهم الاجتماعية الخاصة.
خارج "الغالاري"، إلى الشارع
انطلق على مدى العامين الماضيين عدد من المهرجانات الفنية والثقافية الجديدة في القاهرة؛ فقد شهد شهر أبريل لوحده أربع مهرجانات كبيرة. هَدَف أول هذه المهرجانات – "مهرجان مصر للفن الرقمي" (DI-EGY) الذي استمر من ٢٧ مارس إلى ١٠ أبريل، إلى تعريف الجماهير المصرية والفنانين المصريين الشباب إلى وسائل الفن الرقمي والتكنولوجيات الجديدة. أما "مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة" (دي كاف)، والذي يعقد للعام الثاني فاستمر من ٤ إلى ٢٨ أبريل ويتميز بكونه برنامجاً متنوعاً ومتعدد التخصصات، التي تشمل الفنون البصرية والمسرح والموسيقى والرقص المعاصر والفيلم، ويشارك فيه فنانون مصريون وإقليميون ودوليون. "دي كاف" جدير بالذكر بصورة خاصة فيما يخص استخدام المواقع - فبالإضافة إلى القيام بعروض فنية في المؤسسات الثقافية المعروفة والمرموقة في وسط البلد، يستخدم المهرجان أيضاً "أماكن غير تقليدية للعرض مثل المباني التاريخية وواجهات المحلات والأزقة، وحتى أسطح المباني كمواقع للأداء والعروض والمنشآت الفنية installations، بهدف إشراك الجمهور مع المدينة بطريقة جديدة". بالإضافة إلى هذين المهرجانين وكرد على إغلاق مسرح "روابط"، استضافت جاليري "تاون هاوس" مهرجان "حل بديل" في عامه الأول، والذي يضم العديد من التخصصات الفنية من ٢٤ مارس إلى ١٧ أبريل.
[دي كاف: مصطفى عبد العاطي]
إلا أن مهرجان الشارع "الفن ميدان"، الذي احتفل بعيد ميلاده الثاني في نيسان الماضي، يمثّل أبرز التباينات الجديدة مع مشهد الفن والثقافة المعهود في القاهرة وجماهيره التقليدية. "الفن ميدان" هو مهرجان للفنون الشعبية ويعقد كل أسبوعين في ميدان عابدين بالقاهرة وكذلك في محافظات متعددة بأنحاء مصر. وخلافاً لمهرجان "DI-EGY" و"دي كاف" ذو التوجّهات العالمية، فـ"الفن ميدان" يهدف إلى دعم الفنون المصرية المستقلة وغالباً الثورية، وبناء الوعي الثقافي والسياسي. ويجتذب المهرجان جمهوراً متنوعاً، بما في ذلك أُسَر مصرية وأطفالها، وكذلك جمهور مختلف عن روّاد المشهد الفني المعهودين. كما أنه يتجاوز أيضاً العلاقة التقليدية بين الدولة والمبادرات الفنية الخاصة، والذي يعتمد على دعم "تحالف الثقافة المستقل من الفنانين ومهنيي الفن" علاوة على دعم وزارة الثقافة.
من الواضح أن هذه الإضافات في المشهد الثقافي في القاهرة، فضلاً عن فن الشارع المزدهر في المدينة، قد بدّلت من الطريقة التي يتم بها تلقّي الفن الشعبي. كما قال ضياء حامد، مدير مشاريع "مدرار"، الذي قيّم برنامج الفنون البصرية لـ"دي كاف": "أنا شايف تحوّل كبير في المجتمع في مصر بالنسبة لظهور الفن في المجال العام. قبل كده كانت حاجة غريبة خالص، الناس كانت بتتساءل: `دا الكاميرا الخفية؟` دلوقتي هما فاهمين إن دا عرض، فالسؤال مختلف بيسألوا `هو العرض دا سياسي... ليه علاقة بالثورة... وللا هو بس فني؟` شكل تفاعل الجمهور مع الفن بدأ يتغير - يظهر إن الناس بتتفاعل معاك".
الشقة كمساحة فنية
[متحف التربيزة: هيلن ستر رومويم]
بالإضافة إلى التفاعل مع جماهير جديدة في الشارع، شهد مجال الفن في مصر حركة متزايدة من الأنشطة الثقافية المشابهة للفعاليات الصالونية، حيث انتقل الفن من المؤسسات الرسمية إلى بيوت أهالي القاهرة. وكان "متحف التربيزة" الذي استضاف معارض مصغّرة استمرت من يناير إلى اغسطس سنة ٢٠١٢، في غرفة سفرة في إحدى شقق جاردن سيتي، هو واحداً من هذه المبادرات. كان يتم كل شهر دعوة فنان لإنشاء عمل فني يتم عرضه في داخل تجويفين محفورين في طاولة تغطيها لوحة زجاجية. عاش سكان الشقة برفقة الفن لمدة ثلاثين يوماً كاملة، كما وأقاموا سلسلة نقاش مع الفنانين حول أعمالهم.
[ملحق غروب على النيل]
وتم افتتاح "ملحق غروب على النيل" في يناير سنة ٢٠١٣، وهو مساحة فنية ممولة ذاتياً يديرها فنانون تجريبيون وتشغل غرفة في شقة سكنية في جاردن سيتي. يفتخر القائمون على "ملحق غروب على النيل" بكون هذه المساحة مستقلة تماماً وبتمويل ذاتي، وبتوفيرها لبيئة حميمة لتشجيع الحوار حول العمل الفني. يقول هادي أبو قمر أحد المؤسسين: "الضيوف كانوا جاهزين يدّوا فرصة للفن، أكتر بكتير من لما يبقوا في مكان مجهول لوحدهم. هم كانوا جاهزين عشان يتكلموا معانا ومع الفنانة. كانوا مرتاحين وقاعدين على الكنبة. حتى الأشخاص اللي مالهمش علاقة بالفن هيكونوا مستعدين يسألوا أسئلة أكتر في المكان دا". "سينما الزيدان/ القائمة المجهولة" هو مبادرة مماثلة في منزل مختلف: غرفة في شقة في جاردن سيتي تم تحويلها إلى سينما مخصصة لعرض ومناقشة أفلام كل أسبوع.
أما آخر ما أضيف إلى المجتمعات المتنامية من المساحات الثقافية المنزلية، فهي المبادرة الناشئة "شقة ١٧" حيث ينظم الفنان والمصمم جنزير المساحة الثقافية، وهي تشغل نفس الشقة التي يشغلها "ملحق غروب على النيل"، ولكنها تستضيف سلسلة المناقشات والعروض التقديمية الخاصة بها. يقول جنزير: "هي حصلت بالصدفة. أنا وواحد صاحبي نظمنا بعض العروض للأفلام على السطح واستضفت اجتماع نادي الكتاب، وبعد كده عرضت المكان على رسام قصص مصورة كان بيزور القاهرة عشان يقدم شغله. المكان بقى شقة ننظم فيها حاجات فنية وثقافية بشكل ذاتي، شقة ١٧ نشأت ولسه بتنشأ".
إن مبادرات مثل "شقة ١٧" تقوم بالتركيز على الاستفادة من الشبكات الاجتماعية القائمة، بدلاً من إنشاء فنون متاحة للجميع. إلا أن تزايد المساحات التي تشبه الصالون قد حولت المنزل إلى مكان للأحداث والمناقشات الثقافية، كما أن ذلك أنتج تزايداً للتقاطعات ما بين هذه الأنواع من المساحات والمنشآت التقليدية. فعلى سبيل المثال، يتأمل منظمو مهرجان "حل بديل" إجراء المهرجان في شقق أصدقائهم ذات ردهات الاستقبال الواسعة، التي تمكّن من عقد عروض مختلفة في ذات الوقت للجماهير الصغيرة.
وفي النهاية نستطيع أن نقول إن التطورات في المشهدين الفني والثقافي في مصر هي ليست بمعزل عن النضال والكفاح السياسي. سواء كان ذلك من خلال المساحة الفكرية لـ"بيروت" أو عبر الكلمات السياسية الساخرة لفرقة موسيقية مثل "لايك جيلي" التي سبق وقدمت عروض موسيقية في "حل بديل". هذه المبادرات والمناقشات والفنون التي يتم استضافتها، فهي تشكّل جزء لا يتجزأ من التحديات والتطورات السياسية الجارية والمستمرة. فقد قال مصطفى كامل، مدير مكتبة جديدة ومركز ثقافي في المعادي: "بسبب مساحات زي دي، الثورة مش هتنتهي... فيه كتب أكتر وفن أكتر وفيه ناس بتفكر أكتر... الثورة مستمرة".
[نشرت هذه المقالة للمرة الأولى بالإنجليزية في موقع "مصدرـ مصر"]